نوادر وحكايا (المكفوفين)
منذ بضعة أيام كنت أعيش ساعة من النجوى مع الحكيم الشاعر ابي العلاء المعري. وفي تلك الساعة ، ورغم انصرافي إليه،كانت الأفكار تتداعى عنه وعن شاعر آخر من أعلام أدبنا العربي ..ذلك هو بشار بن برد، ربط بينهما العمى والأدب الرفيع والمعرفة، في وقت لم تكن هناك وسيلة أمامهما للمعرفة سوى الاستماع والحفظ..وقد رأيت أن أريحكم قليلا مع هذه النوادر.
تذكر كتب التراث عن شاعرنا المعري هذه الحكاية الغريبة التي تدلل على شدة حافظته.
كان المعرى يوما جالسا أمام بيته وجاء رجل من فارس كان يسأل عن جار للمعري من قومه.. وكان هذا الفارسي لا يعرف العربية ويريد فيما يبدو ان يوصل رسالة للجار الذي لم يكن وقتها في داره.. فافهمه المعري بالإشارة أن يقول ما يريد والمعري منصت إليه حتى إذا انتهى من حديثه تركه ومضى..
وعندما جاء الجار ، جعل المعري يعيد كلام الرجل الفارسي كلمة كلمة ..واخذ الجار يبكي . فسأله المعري عن سبب بكائه، فقال أوَ لم تفهم ما كنت تقول لي؟ . قال المعري لا، فأنا لا اعرف الفارسية وانما كنت أعيد عليك ما حفظته من كلام الرجل..فذكر له عندها أن هذا الرجل هو من أقاربه وانه جاء ليبلغه عن وفاة والده في فارس..قال هذا وهو دهش من شدة حافظة المعري..
تأخذني هذه الحكاية إلى حكاية مماثلة كان بطلها هذه المرة بشار بن برد..
يقال أن رجلا التقى بشارا وسأله عن مكان كان يقصده. فاخذ بشار يصف الطرق التي يجب أن يسلكها للوصول الى غرضه والرجل لا يفهم. فقام بشار ، وقد برم به ، واخذ بيده وسار به حتى أوصله للمكان الذي يريده وهو يقول:
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمُ=قد ضلّ من كانت العميانْ تهديهِ
ترى لو ان هذين الرجلين كانا في عصرنا هذا وقد توفرت لهما الكتب المكتوبة بطريقة برايل في مختلف فنون العلم والمعرفة ، ووسائل الاتصال الحديثة من تلفزيون واذاعة واشرطة تسجيل ، ما كان شأنهما سيكون؟
قبل ان ياخذنى التداعي في منحى آخر ، فقد وعدت في عنوان هذا الموضوع ان يكون لنوادر المكفوفين.. اعود لقضية العميان تارة اخرى ..والحكاية هذه المرة عشتها انا وكان بطلها أحد الرجال المعروفين في أوساط الثقافة والأدب في بغداد اليوم هو الشيخ جلال الحنفي (رحمه الله)..والعميان الذي اعنيهم لم يكونوا كعميان ذلك الزمن.واليكم الحكاية:
حدث قبل سنوات كثيرة مضت ان كنت جالسا عند (دكان) خياط في أحد محلات بغداد القديمة, وكان الموسم يقارب هذا الموسم الذي تنتظر فيه بغداد الأمطار وتتمتع بشمسها الدافئة اللذيذة, فمرّ شاب أعمى يلبس الجبة والعمة البيضاء الملفوفة على طربوش احمر وهو زي معروف لطلبة المدارس الدينية من العميان، وفي يده مجموعة كتب صغيرة يبيعها(تصدرها جمعية رعاية المكفوفين). فسلم وعرض علينا شراء كتاب دعما لجمعيتهم. أخذت أحد هذه الكتب وبدأت اقلب في صفحاته واقرأ ،وأنا غير راغب في الشراء، فورد اسم الشيخ جلال الحنفي فيما كنت اقرأه. فهتف الخياط الذي كان يستمع اليّ من مكانه :انه شيخ جليل. فسمعت الأعمى يقول بما يشبه الهمس وباستهزاء: هه ..شيخ جليل! .. ضحكت وقلت لم َ هذا؟؟ انه فعلا شيخ جليل ، وأديب معروف، ويكفيه شهادة انه كان أحد الرواد المعدودين لمجلس الأب انستاس ماري الكرملي، احد ابرز اللغويين ، واكبر عاشق للغة العربية في طول الوطن العربي وعرضه.. والذي كان يحضره اجلة الأساتذة والأدباء…أضف الى ذلك أن الشيخ الحنفي هو رجل علم ودين.. لم يدعني الشاب الأعمى استرسل فقد قال بعصبية : ان علمه شيطاني.. أمسكت بيده وقلت له وأنا اضحك : تعال اجلس الى جانبي تحت هذه الشمس الرائعة واخبرني بحق ما الذي تأخذه على الحنفي.. فامتنع أولا ، لكنني وعدته أن اشترى اكثر من نسخة اذا هو اصدقني الحديث.. لانَ أخيرا وقال: سأخبرك شرط أن لا تحدث بما فعله هذا الـ .. معنا..لأنني لا أريد مشاكل مع زملائى في الجمعية. فوعدته خيرا.. واخذ يروي قصته..
قال : كنا اكثر من خمسة وعشرين تلميذا للشيخ الحنفي، وكلنا من العميان كما ترى..وكنا ،في مثل هذا الوقت قبل عامين، نأخذ دروسنا عنه في احد المساجد القديمة. وقتها كان المسجد بحاجة الى وضع الطبقة المعهودة في المساكن القديمة من الطين المخلوط بالقش على سطحه قبل ان يفاجئنا المطر. وفي ظهر ذلك اليوم قال لنا استاذنا : ما رأيكم ان نصلي الظهر فوق السطح تحت الشمس الدافئة.. وافقنا .. ووضع كل منا يده على كتف الآخر وسرنا والشيخ في المقدمة يقودنا على السلم ثم إلى السطح وصفنا صفا واحدا تمهيدا لاقامة الصلاة.. وسكت صاحبي وهز رأسه بأسى وغضب وأردف : من أين كنا سنعرف ان العمال كانوا ،قبل يوم ، قد هدوا سياج السطح لكي يتمكنوا من نقل أكداس القش الهائلة عند اسفل الجدار؟ لقد صفنا هذا الملعون على حافة الجدار تماما ..ثم كبّر وركع ..وركعنا .. ثم كبّر وسجد .. وسجدنا.. ولك أن تتخيل البقية..كلا انك لن تستطيع أن تتخيل مهما أوتيت من مقدرة على التخيل تلك اللحظة التي تعتقد انك ستضع يدك على ارض صلبة للسجود فإذا بك تحس بفراغ ..وتهوى الى الأسفل.. ..لقد وصلت قلوبنا الى الحناجر حتى أن بعضنا أغمي عليه من شدة الهلع.. وهكذا.. تكومنا كلنا على القش وقد انتثرت عمائمنا وانقلبت جببنا على رؤوسنا.. ثم قمنا ننفض القش عن ملابسنا ونحن نشتمه وهو واقف على السطح يضحك منا ..
ثم التفت الي والى صاحبي الخياط ونحن غارقان في الضحك..تقول لي انه شيخ جليل..وقال بغضب : ألان كم نسخة تريد؟
منذ بضعة أيام كنت أعيش ساعة من النجوى مع الحكيم الشاعر ابي العلاء المعري. وفي تلك الساعة ، ورغم انصرافي إليه،كانت الأفكار تتداعى عنه وعن شاعر آخر من أعلام أدبنا العربي ..ذلك هو بشار بن برد، ربط بينهما العمى والأدب الرفيع والمعرفة، في وقت لم تكن هناك وسيلة أمامهما للمعرفة سوى الاستماع والحفظ..وقد رأيت أن أريحكم قليلا مع هذه النوادر.
تذكر كتب التراث عن شاعرنا المعري هذه الحكاية الغريبة التي تدلل على شدة حافظته.
كان المعرى يوما جالسا أمام بيته وجاء رجل من فارس كان يسأل عن جار للمعري من قومه.. وكان هذا الفارسي لا يعرف العربية ويريد فيما يبدو ان يوصل رسالة للجار الذي لم يكن وقتها في داره.. فافهمه المعري بالإشارة أن يقول ما يريد والمعري منصت إليه حتى إذا انتهى من حديثه تركه ومضى..
وعندما جاء الجار ، جعل المعري يعيد كلام الرجل الفارسي كلمة كلمة ..واخذ الجار يبكي . فسأله المعري عن سبب بكائه، فقال أوَ لم تفهم ما كنت تقول لي؟ . قال المعري لا، فأنا لا اعرف الفارسية وانما كنت أعيد عليك ما حفظته من كلام الرجل..فذكر له عندها أن هذا الرجل هو من أقاربه وانه جاء ليبلغه عن وفاة والده في فارس..قال هذا وهو دهش من شدة حافظة المعري..
تأخذني هذه الحكاية إلى حكاية مماثلة كان بطلها هذه المرة بشار بن برد..
يقال أن رجلا التقى بشارا وسأله عن مكان كان يقصده. فاخذ بشار يصف الطرق التي يجب أن يسلكها للوصول الى غرضه والرجل لا يفهم. فقام بشار ، وقد برم به ، واخذ بيده وسار به حتى أوصله للمكان الذي يريده وهو يقول:
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمُ=قد ضلّ من كانت العميانْ تهديهِ
ترى لو ان هذين الرجلين كانا في عصرنا هذا وقد توفرت لهما الكتب المكتوبة بطريقة برايل في مختلف فنون العلم والمعرفة ، ووسائل الاتصال الحديثة من تلفزيون واذاعة واشرطة تسجيل ، ما كان شأنهما سيكون؟
قبل ان ياخذنى التداعي في منحى آخر ، فقد وعدت في عنوان هذا الموضوع ان يكون لنوادر المكفوفين.. اعود لقضية العميان تارة اخرى ..والحكاية هذه المرة عشتها انا وكان بطلها أحد الرجال المعروفين في أوساط الثقافة والأدب في بغداد اليوم هو الشيخ جلال الحنفي (رحمه الله)..والعميان الذي اعنيهم لم يكونوا كعميان ذلك الزمن.واليكم الحكاية:
حدث قبل سنوات كثيرة مضت ان كنت جالسا عند (دكان) خياط في أحد محلات بغداد القديمة, وكان الموسم يقارب هذا الموسم الذي تنتظر فيه بغداد الأمطار وتتمتع بشمسها الدافئة اللذيذة, فمرّ شاب أعمى يلبس الجبة والعمة البيضاء الملفوفة على طربوش احمر وهو زي معروف لطلبة المدارس الدينية من العميان، وفي يده مجموعة كتب صغيرة يبيعها(تصدرها جمعية رعاية المكفوفين). فسلم وعرض علينا شراء كتاب دعما لجمعيتهم. أخذت أحد هذه الكتب وبدأت اقلب في صفحاته واقرأ ،وأنا غير راغب في الشراء، فورد اسم الشيخ جلال الحنفي فيما كنت اقرأه. فهتف الخياط الذي كان يستمع اليّ من مكانه :انه شيخ جليل. فسمعت الأعمى يقول بما يشبه الهمس وباستهزاء: هه ..شيخ جليل! .. ضحكت وقلت لم َ هذا؟؟ انه فعلا شيخ جليل ، وأديب معروف، ويكفيه شهادة انه كان أحد الرواد المعدودين لمجلس الأب انستاس ماري الكرملي، احد ابرز اللغويين ، واكبر عاشق للغة العربية في طول الوطن العربي وعرضه.. والذي كان يحضره اجلة الأساتذة والأدباء…أضف الى ذلك أن الشيخ الحنفي هو رجل علم ودين.. لم يدعني الشاب الأعمى استرسل فقد قال بعصبية : ان علمه شيطاني.. أمسكت بيده وقلت له وأنا اضحك : تعال اجلس الى جانبي تحت هذه الشمس الرائعة واخبرني بحق ما الذي تأخذه على الحنفي.. فامتنع أولا ، لكنني وعدته أن اشترى اكثر من نسخة اذا هو اصدقني الحديث.. لانَ أخيرا وقال: سأخبرك شرط أن لا تحدث بما فعله هذا الـ .. معنا..لأنني لا أريد مشاكل مع زملائى في الجمعية. فوعدته خيرا.. واخذ يروي قصته..
قال : كنا اكثر من خمسة وعشرين تلميذا للشيخ الحنفي، وكلنا من العميان كما ترى..وكنا ،في مثل هذا الوقت قبل عامين، نأخذ دروسنا عنه في احد المساجد القديمة. وقتها كان المسجد بحاجة الى وضع الطبقة المعهودة في المساكن القديمة من الطين المخلوط بالقش على سطحه قبل ان يفاجئنا المطر. وفي ظهر ذلك اليوم قال لنا استاذنا : ما رأيكم ان نصلي الظهر فوق السطح تحت الشمس الدافئة.. وافقنا .. ووضع كل منا يده على كتف الآخر وسرنا والشيخ في المقدمة يقودنا على السلم ثم إلى السطح وصفنا صفا واحدا تمهيدا لاقامة الصلاة.. وسكت صاحبي وهز رأسه بأسى وغضب وأردف : من أين كنا سنعرف ان العمال كانوا ،قبل يوم ، قد هدوا سياج السطح لكي يتمكنوا من نقل أكداس القش الهائلة عند اسفل الجدار؟ لقد صفنا هذا الملعون على حافة الجدار تماما ..ثم كبّر وركع ..وركعنا .. ثم كبّر وسجد .. وسجدنا.. ولك أن تتخيل البقية..كلا انك لن تستطيع أن تتخيل مهما أوتيت من مقدرة على التخيل تلك اللحظة التي تعتقد انك ستضع يدك على ارض صلبة للسجود فإذا بك تحس بفراغ ..وتهوى الى الأسفل.. ..لقد وصلت قلوبنا الى الحناجر حتى أن بعضنا أغمي عليه من شدة الهلع.. وهكذا.. تكومنا كلنا على القش وقد انتثرت عمائمنا وانقلبت جببنا على رؤوسنا.. ثم قمنا ننفض القش عن ملابسنا ونحن نشتمه وهو واقف على السطح يضحك منا ..
ثم التفت الي والى صاحبي الخياط ونحن غارقان في الضحك..تقول لي انه شيخ جليل..وقال بغضب : ألان كم نسخة تريد؟