بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث المقلوب - تعريفه، وفوائده، وحكمه، والمصنفات فيه
د. محمد بن عمر بن سالم بازمول
الأستاذ المشارك بقسم الكتاب والسنة - كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
ملخص البحث
الحديث المقلوب من أنواع علوم الحديث!
وقد قام الباحث بدراسة موضوعية تعريفية، ناهجاً سبيل التحليل والعرض لبيان هذا النوع وإلقاء الضوء عليه، فبدأ بتعريف الحديث المقلوب مستعرضاً كلام أئمة المصطلح، واقفاً عند عباراتهم لاستبيان مرادهم رحمهم الله في التعريف، وقدّم في نهاية ذلك التعريف المختار
ثم ثنّى ببيان فوائد معرفة الحديث المقلوب.
وثلث ببيان حكم الحديث المقلوب، ومرتبته! وفصّل في ذلك بحسب صوره وأحواله.
ثم بيّن الطريق التي يُعْرف بها القلب في الحديث.
ثم أورد أمثلة للحديث المقلوب متناً.
وذكر بعد ذلك الأئمة الذين استعملوا في عباراتهم الوصف بالقلب!
وأخيراً ذكر المصنفات في الحديث المقلوب!
وجاءت بعد ذلك الخاتمة والتي تتضمن أهم نتائج البحث.
ومن هنا جاء عنوان البحث:
"الحديث المقلوب تعريفه وفوائده وحكمه والمصنفات فيه"
وقد تحرّى الباحث في بحثه أن يمدّه بما تجمّع لديه من نصوص للأئمة منثورة في ثنايا كتب التخريج والجرح والتعديل والشروح، فلم يقتصر البحث في مادته على ما جاء في كتب المصطلح!
والباحث يرجو أن يسد ببحثه هذا فراغاً في المكتبة الحديثية حيث لا توجد حسب علمه دراسة مفردة لهذا النوع الحديثي مع أهميته!
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد: فهذا كتاب قصدت فيه بيان الحديث المقلوب وما يتعلق به، وقد أسميته:
الحديث المقلوب
تعريفه وفوائده و حكمه و المصنفات فيه
وقسمته على تمهيد وخمسة مقاصد وخاتمة، وتفصيل ذلك هو التالي:
أمّا التمهيد: ففي دائرة الحديث المقلوب!
أمّا المقصد الأول: ففي تعريف الحديث المقلوب
أمّا المقصد الثاني: في فوائد معرفته.
المقصد الثالث: حكم الحديث المقلوب!
المقصد الرابع: كيف يعرف القلب في الحديث؟
المقصد الخامس: أمثلة للحديث المقلوب متناً.
المقصد السادس: الأئمة الذين استعملوا في عباراتهم الوصف بالقلب!
المقصد السابع: المصنفات في الحديث المقلوب!
أمّا الخاتمة: ففي أهم النتائج التي انتهت إليها الدراسة.
أسأل الله تبارك تعالى أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقني فيه القبول في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل جميع عملي خالصاً لوجهه الكريم، وداعياً إلى سنة نبيه الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم.
تمهيد: دائرة الحديث المقلوب
لم يقتصر دور قلب الحديث عند حدِّ استعماله وسيلة من وسائل الكشف عن حال الراوي في الضبط، ومعرفة مدى حفظه لمرويه؛ بل تعدّى ذلك إلى كونه وصفاً يوصف به الراوي لبيان نوع وهمه وخطئه، فهو بصفة عامة من الجرح المفسر غير المجمل، كما أصبح بالاستقراء علامة على نكارة حديث الراوي بدرجات متفاوتة قد تخف إلى درجة لا تخرج الراوي عن حيز القبول، وقد تزيد إلى درجة تخرج الراوي إلى حيز الرد، بل أحياناً إلى درجة الضعيف جداً الذي لا يقبل حديثه التقوي والانجبار بتعدد الطرق.
وسيأتي ذكر الأئمة الذين كانوا يستعملون الوصف بالقلب في كلامهم عن الرجال أو في بيان حال الأحاديث، ومنها ما جاء عن شعبة (ت160ه) وحماد ابن سلمة (ت167ه)، وابن معين (ت233ه) رحمهم الله.
بل يُعْرف قدر حفظ الراوي بأنه لم يُقْلب عليه إسناد!
قال عمرو بن محمد الناقد (ت232ه): "ما كان في أصحابنا أعلم بالإسناد من يحي بن معين ما قدر أحد يقلب عليه إسناد قط"(1).
وتتسع دائرة المقلوب فتتداخل مع أنواع حديثية عديدة يأتي فيها صورة الحديث المقلوب.
ولمّا ذكر ابن حبان (ت354ه) رحمه الله أنواع جرح الضعفاء، ذكر النوع العاشر وقال: "ومنهم من كان يقلب الأخبار ويسوّي الأسانيد كخبر مشهور عن صالح يجعله عن نافع وآخر لمالك يجعله عن عبيدالله بن عمر ونحو هذا.
كإسماعيل بن عبيدالله التيمي وموسى بن محمد البلقاوي وعمر بن راشد الساحلي، وذويهم وقد رأينا في عصرنا جماعة مثلهم يُسرون الأحاديث"اه(2).
وقال الحاكم (ت405ه) رحمه الله، لمّا ذكر أنواع الجرح والمجروحين على عشرة طبقات: "الطبقة الثانية من المجروحين: قوم عمدوا إلى أحاديث مشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة ووضعوا إليها غير تلك الأسانيد فركبوها عليها ليستغرب بتلك الأسانيد منهم: إبراهيم بن اليسع وهو ابن أخي حية يُحدِّث عن جعفر بن محمد الصادق وهشام بن عروة، فيركب حديث هذا على حديث ذلك، وكذلك حمّاد بن عمرو النصيبي وبهلول بن عبيد وأصرم بن حوشب، وغيرهم"اه(3).
وفي الصفحات القادمة سنتبين الحديث المقلوب وأقسامه وما يتعلق به!
المقصد الأول: تعريف الحديث المقلوب
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الحديث المقلوب لغة
المطلب الثاني: تعريف المقلوب اصطلاحاً.
وإليك البيان:
المطلب الأول: تعريف الحديث المقلوب لغة
المقلوب لغة:
المقلوب اسم مفعول من (قلب).
ومادة "ق.ل.ب" لها في اللغة أصلان صحيحان:
أحدهما يدل على خالص شيء وشريفة.
والآخر يدل على رد شيء من جهة إلى جهة.
والأصل الثاني هو المراد هنا. ومنه:
القليب: البئر قبل أن تطوى، وإنما سمِّيت قليباً لأنها كالشيء يقلب من جهة إلى جهة، وكانت أرضاً فلمّا حفرت صار ترابها كأنه قلب فإذا طويت فهي الطَّوى ولفظ القليب مذكر. والحوّل القلب: الذي يقلب الأمور ويحتال لها(4).
المطلب الثاني: تعريف المقلوب اصطلاحاً.
المقلوب اصطلاحاً:
المقصود هنا تعريف المقلوب في اصطلاح علماء الحديث، دون غيرهم(5).
وسأستعرض هنا تعاريف أهل العلم للحديث المقلوب، مسجلاً عقب كل تعريف أورده ما لدي من ملاحظات عامة، خاتماً ذلك ببيان التعريف المختار.
تعريف ابن الصلاح (ت643ه) رحمه الله:
قال عليه من الله الرحمة والرضوان: "هو نحو حديث مشهور عن سالم جُعِل عن نافع ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه، و (هو) كذلك (جعل) متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر"اه(6).
وتلاحظ الأمور التالية:
1 تابع ابن الصلاح على تعريفه الذين اختصروا كتابه أو نظموه، ومن هؤلاء:
النووي (ت676ه) رحمه الله(7).
وابن جماعة (ت733ه) رحمه الله(8).
والطيبي (ت743ه) رحمه الله(9).
وابن كثير (ت774ه) رحمه الله(10).
والعراقي (ت806ه) رحمه الله (11).
2 جرى ابن الصلاح في تعريفه على التعريف بالمثال(12)، وهو تعريف بالرسم الناقص. وفائدة هذه الملاحظة بيان أنه لا يتوجه عليه رحمه الله نقد في تعريفه من جهة أنه لم يكن جامعاً مانعاً؛ لأنه لم يقصد أصلاً التعريف بالحد التام أو الرسم التام.
3 اقتصر ابن الصلاح رحمه الله في تعريفه بالمثال على قسمين أو صورتين من المقلوب في السند، دون ذكر المقلوب في المتن. كما أنه أطلق الكلام فهو شامل لحال العمد و الوهم!
وقد ذكر ذلك ابن حجر (ت852ه) رحمه الله أثناء تنبيهه على وقوع القلب في متن حديث أخرجه مسلم في صحيحه، قال: "وقع في صحيح مسلم مقلوبا: "حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"(13) وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب(14) لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا في محاسن الاصطلاح(15)... وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس(16). انتهى.
والأولى تسميته مقلوبا؛ فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء، وقد سماه بعض من تقدم: (مقلوبا)."اه(17).
4 وبناء على هذا فإن ابن الصلاح رحمه ومن تابعه وجماعة من أهل العلم، لم يأت في تعريفهم إلا القلب في الإسناد! وعلل أهل العلم سبب ذلك أنه قصداً للغالب والأكثر من صور القلب وهو القلب في السند.
قال السخاوي (ت902ه) رحمه الله: "وقسّموا (أي: أهل الحديث) المقلوب السندي خاصة، لكونه الأكثر كاقتصارهم في الموضوع على المتني لكونه الأهم"اه(18).
قال عطية الأجهوري (ت1194ه) رحمه الله: "وهذا التعريف يخص القلب في السند واقتصر عليه في التعريف لكثرته في السند وقلته في المتن"اه(19).
قال اللكنوي (ت1304ه) رحمه الله: "و(مقلوب السند) أكثر وقوعاً بالنسبة إلى (مقلوب المتن) ولذا سكت عن ذكر (مقلوب المتن) كثير من المصنفين في هذا الفن، كما أنهم اقتصروا في بحث الموضوع على المختلق متناً لكثرة وقوعه مع أنه قد يكون الحديث صحيحاً والسند موضوعاً"اه(20).
والحق الذي لا مرية فيه أن كلام أئمة الجرح والتعديل المتعلق بالمقلوب أكثره وجلّه متعلق بالقلب في السند، بل لا استحضر الآن كلاماً صريحاً لأحد من المتقدِّمين في القلب في المتن(21)ويؤيد هذا الواقع: الصور المندرجة تحت القلب في السند فإنها صورتان وصورة واحدة للمتن، وصورة مشتركة بينهما، وعدّها الأكثر من صور قلب السند.
5 ذكر ابن الصلاح في تعريفه مثالين للمقلوب، أحدهما: أن يجعل سند الحديث لمتن الآخر، وسند الآخر لمتن هذا، وهذه الصورة للقلب عدّها جمهور المصنفين في مصطلح الحديث من قبيل القلب في السند، وعدّها بعضهم من قبيل قلب المتن(22).
وقد ذكر ابن حجر (ت852ه) رحمه الله مثالاً للقلب في المتن ينطبق على هذه الصورة حيث قال: "وأمّا في المتن فكمن يعمد إلى نسخة مشهورة بإسناد واحد فيزيد فيها متناً أو متوناً ليست فيها كنسخة معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد زاد فيها.
وكنسخة مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما زاد فيها جماعة عدة أحاديث ليست فيها، منها القوي والسقيم وقد ذكر جلّها الدارقطني في غرائب مالك"اه(23).
فإذا اعتبرنا أن القسم الثاني من المقلوب الذي ذكره ابن الصلاح وهو جعل متن هذا الإسناد لإسناد آخر... الخ" من المقلوب متناً فإنه يكون رحمه الله قد أشار في تعريفه إلى القلب في السند وفي المتن. وينحصر القصور في تعريفه في جهة واحدة وهي كونه لم يشمل جميع أنواع المعرّف في كل صوره أو أفراده؛ مكتفياً بالإشارة إلى محله فالقلب إمّا أن يكون في السند وإمّا أن يكون في المتن، واكتفى بالتمثيل بمثال واحد لكل منهما. وفائدة هذا: التنبيه أنه لا يتوجه نقد ابن الصلاح بأنه لم يشر إلى القلب في المتن.
6 اقتصر بعض العلماء الذين جاؤوا بعد ابن الصلاح على نحو تعريف ابن الصلاح مقتصرين على تعريف المقلوب بحسب الغالب والأكثر؛ من هؤلاء:
ابن دقيق العيد (أبي الفتح القشيري) (ت702ه) رحمه الله، حيث اقتصر على تعريف القلب في السند، مقتصراً على صورة واحدة منه وهي إبدال راوٍ في السند بآخر في طبقته(24).
الذهبي (ت748ه) رحمه الله،، حيث اقتصر على تعريف القلب سنداً، فذكر صورتين منه؛ القلب بتركيب إسناد حديث إلى متن آخر بعده، أو أن ينقلب عليه اسم راوٍ مثل: "مرّة بن كعب" ب "كعب بن مرّة"، و "سعد بن سنان" ب "سنان بن سعد"(25).
ابن الملقن (ت804ه) رحمه الله، حيث عرّف القلب مقتصراً على القلب في السند، فقال عن القلب إنه: "إسناد الحديث إلى غير راويه"اه(26).
الشريف الجرجاني (ت816ه) رحمه الله، فعرَّفه بتعريف ابن الصلاح باختصار(27).
وكذا صنع محمد بن محمد بن علي الفارسي (ت873ه) رحمه الله(28).
ومحي الدين الكافيجي (ت879ه) رحمه الله(29).
وجمال الدين يوسف ابن عبدالهادي (ت909ه) رحمه الله(30).
تعريف الزركشي (ت794ه) رحمه الله:
قال رحمه الله: "جعل إسناد لمتن آخر وتغيير إسناد بإسناد"اه(31).
ويلاحظ مايلي:
1 أن الزركشي رحمه الله اعتبر تعريفه هذا مبيناً لحقيقة المقلوب، وقاله بعد أن تعقّب ابن الصلاح في تعريفه بقوله: "لم يتعرّض للقلب في المتن"(32).
وقد قدّمت لك ضمن الملاحظات تحت تعريف ابن الصلاح أنه يمكن اعتبار ابن الصلاح قد تعرّض للتعريف بالمقلوب في المتن، على الطريقة التي جرى عليها بعضهم، حيث ذكر المثال الثاني في تعريفه: "و (هو) كذلك (جعل) متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر"، وهذه الصورة يمكن أن تعتبر من المقلوب في المتن بالنظر إلى المتن؛ وعليه فلا تعقب على ابن الصلاح هنا!
2 بل لا بد من اعتبار ذلك في تعريف الزركشي حتى يصح كلامه في أن التعريف الذي ذكره (يعني: الزركشي) يبين حقيقة المقلوب!
وعندها يأتي سؤال: إذا كان هذا هو المراد، فما وجه تعقبه على ابن الصلاح بأنه لم يتعرّض للقلب في المتن؟
الجواب: إن تعريف ابن الصلاح بذكر المثال الثاني جاء بطريقة قد توهم أن محل التعريف عنده هو فقط قوله: "هو نحو حديث مشهور عن سالم جُعِل عن نافع ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه" لأن ذكره للجزء الثاني في التعريف جاء في سياق ذكره لقصة البخاري (ت256ه) مع أهل بغداد لمّا قلبوا له الأحاديث فميزها!
فكأن والله اعلم الحافظ الزركشي رحمه الله اعتبر الجزء الأول من كلام ابن الصلاح هو فقط التعريف فأورد عليه إيراده ذاك!
3 إذا تقرر ما ذكرته ؛ فلا تعقب على ابن الصلاح أصلاً من هذه الجهة، ويبقى أن يتعقب الزركشي في تعريفه بما سبق من تعقيب على ابن الصلاح من أن التعريف لم يشمل جميع صور القلب.
تعريف ابن الجزري (ت833ه) رحمه الله:
قال رحمه الله:
والخبر المقلوب أن يكون عن
وقيل فاعل هذا يسرق
قلت: وعندي أنه الذي وضع
للحافظ البخاري في بغداد
منقلب وأصله كما يجب
كمثل للفارس سهمين للفرس
إن ابن مكتوم ليل يُسْمَع
سالم يأتي نافع ليرغبن
ثم مركب على ذا أطلقوا
إسناد ذا لغيره كما وقع
والمزِّ أيضاً بابن عبدالهادي
يسبق لفظ الراو فيه ينقلب
للنار ينشيء الله خلقاً انعكس
وقبل جمعة يُصَلِّي أربع(33)
وتلاحظ الأمور التالية:
1 أن ابن الجزري رحمه الله أطلق المقلوب على صورة واحدة، منصوره، وهي: "حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه".
2 سمّى الصورة الثانية من صور المقلوب عند ابن الصلاح وهي: "جعل متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر"، سمّاها
ب "المركب"، وقال: هي أولى بهذه التسمية من الصورة الأولى التي سمّاها بعض المحدثين بذلك.
وهذا اصطلاح من ابن الجزري و لا مشاحة فيه.
3 ذكر صورة القلب في المتن التي هي: "أن يكون الحديث على وجه فينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغيّر معناه وربما انعكس"(34)، وسمّاها ب "المنقلب". وأشار رحمه الله أن في قلب المتن عكس للمتن.
وقد قال السراج البلقيني (ت805ه) رحمه الله: "يمكن أن يسمى ذلك بالمعكوس، فينبغي أن يفرد بنوع خاص ولكن لم أر من تعرض له"اه(35).
وابن الجزري رحمه الله في ذكره لهذه الصورة قد تميّز عمن قبله، بل إنه رحمه الله ذكر أمثلة لهذا القسم توضحه وتبينه، فجزاه الله خيراً.
4 يستدرك عليه رحمه الله أنه لم يذكر صورة القلب في الأسماء، وهو: "أن ينقلب عليه اسم راوٍ مثل: "مرّة بن كعب" ب "كعب بن مرّة"، و "سعد بن سنان" ب "سنان بن سعد".
5 جرى القاسمي (ت1332ه) رحمه الله على نحو اصطلاح ابن الجزري رحمه الله، حيث قال القاسمي رحمه الله، تحت الأنواع التي تختص بالضعيف: "المقلوب وهو ما بدل فيه راوٍ بآخر في طبقته أو أخذ إسناد متنه فركب على متن آخر ويقال له المركب"(36). وعدّ في الأنواع التي تشترك في الصحيح والحسن والضعيف: "المنقلب: الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه"اه(37).
قلت: ويلاحظ أن القاسمي لم يرد في كلامه ذكر لصور من صور القلب وهي: إبدال اسم الراوي مع اسم أبيه. كما أنه صرّح بأن الصورتين اللتين ذكرهما من نوع الضعيف. وهو يعني بذلك والله اعلم أنهما من نوع الضعيف من جهة السند، أمّا المتن فقد يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً أو حتى موضوعاً؛ ولذلك تراه رحمه الله لمّا ذكر القلب المتعلق بالمتن وسمّاه ب "المنقلب" أدرجه تحت الأنواع التي تشترك في الصحيح والحسن والضعيف.
تعريف ابن الوزير اليماني (ت840ه) رحمه الله:
قال رحمه الله: "هو قسمان: أحدهما: أن يكون الحديث مشهوراً براوٍ فيجعل مكانه راوٍ آخر في طبقته ليصير بذلك غريباً مرغوباً فيه كحديث مشهور بسالم يجعل مكانه نافع ونحو ذلك... القسم الثاني: أن يؤخذ إسناد متن فيجعل على متن آخر، ومتن هذا فيجعل بإسناد آخر. القسم الثالث(38): ما انقلب على راويه ولم يقصد قلبه. نوع آخر من المقلوب: وهو ما انقلب متنه على بعض الرواة"اه(39).
ويلاحظ عليه الأمور التالية:
1 أن تعريفه جاء شاملاً للقلب في السند والمتن، مفرداً القلب في المتن بصورة خاصة غير مشتركة.
2 أن جميع هذه الصور عنده في المقلوب، ولم يصطلح لها أسماء خاصة.
3 يستدرك عليه رحمه الله أنه لم يذكر صورة القلب في الأسماء، وهو: "أن ينقلب عليه اسم راوٍ مثل: "مرّة بن كعب" ب "كعب بن مرّة"، و "سعد بن سنان" ب "سنان بن سعد".
تعريف ابن حجر (ت852ه) رحمه الله:
قال رحمه الله: "حقيقته إبدال من يعرف برواية بغيره فيدخل فيه إبدال راوٍ أو أكثر من راوٍ حتى الإسناد كله وقد يقع ذلك عمداً إمّا بقصد الإغراب أو لقصد الامتحان وقد يقع وهماً فأقسامه ثلاثة وهي كلها في الإسناد وقد يقع نظيرها في المتن وقد يقع فيهما جميعاً"اه(40). وقال أيضاً: "إن كانت المخالفة بتقديم أو تأخير أي في الأسماء ك "مرة بن كعب" و"كعب بن مرّة"؛ لأن اسم أحدهما اسم أبي الآخر فهذا هو المقلوب، وقد يقع القلب في المتن أيضاً"(41). ثم قال: "وقد يقع الإبدل عمداً لمن يريد اختبار حفظه امتحاناً من فاعله كما وقع للبخاري والعقيلي وغيرهما. وشرطه أن لا يستمر عليه بل ينتهي بانتهاء الحاجة، فلو وقع الإبدال عمداً لا لمصلحة بل للإغراب مثلاً فهو من أقسام الموضوع ولو وقع غلطاً فهو من المقلوب أو المعلل"اه(42).
ويلاحظ ما يلي:
1 أن تعريف ابن حجر رحمه الله هذا لم يأت في محل واحد بل جاء مفرقاً في أكثر من موضع وفي أكثر من كتاب؛ فالمقطع الأول جاء في كتابه النكت على كتاب ابن الصلاح، والمقطع الثاني جاء في كتابه "نزهة النظر"، في موضعين منه.
2 أنه اصطلح على تسمية ما وقعت فيه "المخالفة بتقديم أو تأخير في الأسماء ك "مرة بن كعب" و"كعب بن مرّة"، ب "المبدل" مع تسميته له ب "المقلوب"(43)فهو مقلوب مبدل.
3 اصطلح على أن ما وقع فيه الإبدال (يعني: إبدال من يعرف برواية بغيره فيدخل فيه إبدال راوٍ أو أكثر من راوٍ حتى الإسناد كله) عمداً لا لمصلحة بل للإغراب مثلاً فهو من أقسام الموضوع، وهو بذلك لا يمنع تسميته بالمقلوب بل يقيده بأنه مقلوب موضوع، أمّا لو وقع غلطاً فهو من المقلوب أو المعلل، فحصر القلب في الوهم فهو الذي يطلق عليه أنه "مقلوب" دون أي قيد.
4 أن تعريف ابن حجر رحمه الله بالنظر إلى مجموعه جاء شاملاً لجميع صور المقلوب، وستأتي إن شاء الله تعالى في آخر هذا الاستعراض لتعريف المقلوب عند علماء المصطلح.
5 في كلام ابن حجر (ت852ه) رحمه الله في نزهة النظر ما قد يوهم أن شرط المقلوب المبدل أن يقع وهماً وغلطاً(44)، وسبب هذا والله اعلم عبارة ابن حجر رحمه الله نفسه حيث قال:"وقد يقع الإبدل عمداً لمن يريد اختبار حفظه امتحاناً من فاعله كما وقع للبخاري والعقيلي وغيرهما. وشرطه أن لا يستمر عليه بل ينتهي بانتهاء الحاجة، فلو وقع الإبدال عمداً لا لمصلحة بل للإغراب مثلاً فهو من أقسام الموضوع ولو وقع غلطاً فهو من المقلوب أو المعلل"اه(45).
ويزول هذا الإيهام إن شاء الله تعالى إذا تنبهت إلى أن مراد الحافظ ابن حجر والله اعلم أن وقوع الإبدال عمداً يدخل في الموضوع لا أنه لا يسمى مقلوب، بل يكون مقلوباً موضوعاً، فلا يطلق عليه اسم القلب فقط؛ ويدل على هذا الأمور التالية:
أنه نص أن الإبدال يقع عمداً ووهماً، ويسمى في جميع حالته قلباً وذلك في قوله رحمه الله: "حقيقته (يعني: المقلوب) إبدال من يعرف برواية بغيره فيدخل فيه إبدال راوٍ أو أكثر من راوٍ حتى الإسناد كله وقد يقع ذلك عمداً إمّا بقصد الإغراب أو لقصد الامتحان وقد يقع وهماً فأقسامه ثلاثة وهي كلها في الإسناد وقد يقع نظيرها في المتن وقد يقع فيهما جميعاً"اه(46).
أنه نص على أن إبدال اسم الراوي بالتقديم والتأخير من المقلوب حيث قال: "إن كانت المخالفة بتقديم أو تأخير أي في الأسماء ك "مرة بن كعب" و"كعب بن مرّة"؛ لأن اسم أحدهما اسم أبي الآخر فهذا هو المقلوب، وقد يقع القلب في المتن أيضاً".
فتحصل من النصين أن الإبدال في الحديث سنداً أو متناً بجميع صوره عنده من المقلوب، وجميعه عنده يقع عمداً أو سهواً، وعليه؛ فإن مراده باصطلاح "المبدل": أن المقلوب في حالة حصوله عمداً سواء كان في اسم الراوي بالتقديم أو التأخير أو بإبدال راوٍ مكان راوٍ أو إبدال السند جميعه وهو ما مثل له في كلامه في "النزهة" بقوله: "كما وقع للبخاري والعقيلي"، فالإبدال في جميع هذه الصور إذا وقع عمداً فهو من أقسام الموضوع، و لا يزول عنه اسم المقلوب، فيكون مقلوباً موضوعاً.
يساعد هذا قوله في معرض ذكر أصناف الوضاعين: "الصنف الثالث: من حمله لشره ومحبة الظهور على الوضع ممن رق دينه من المحدثين فيجعل بعضهم للحديث الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً كمن يدّعي سماع من لم يسمع وهذا داخل في قسم المقلوب"اه(47).
فهنا أدخل هذا في المقلوب، وهناك أدخل الإبدال في حال العمد في الموضوع، فليس مراده إذا أنه لا يسمى مقلوباً إنما مراده أنه يسمى مقلوباً مع قيد الوضع، لأن راويه تعمد ذلك! فاسم "المقلوب" مطلقاً دون قيد شرطه: وقوع القلب وهماً لا عمداً.
وهذا هو ما أشار إليه السيوطي (ت911ه) رحمه الله في قوله:
القلب في المتن وفي الإسناد قر
واحد نظيره ليغربا
لآخر و عكسه إغراباً أو
وهو يسمى عندهم بالسرقة
إمّا بإبدال الذي به اشتهر
أو جعل إسناد حديث اجتبى
ممتحناً كأهل بغداد حكوا
وقد يكون القلب سهواً أطلقه(48)
فقوله: "وقد يكون القلب سهواً أطلقه" يشير إلى المعنى الذي ذكرته لك. وهذا في الحقيقة يتفق مع ما تقرر في علم المصطلح عن الحديث الموضوع من أنه "لاتحل روايته لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مقروناً ببيان وضعه بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها في الباطن حيث جاز روايتها في الترغيب والترهيب"(49).
6 وفي فلك تعريف ابن حجر (ت852ه) رحمه الله يدور تعريف تلميذه السخاوي (ت902ه) رحمه الله(50).
وكذا السيوطي (ت911ه)، حيث أشار إلى تعريف المقلوب بأنه: "إبدال الذي به اشتهر الحديث سنداً أو متناً"، مع ملاحظة أنه اقتصر في الصور على ما ذكره ابن الصلاح رحم الله الجميع(51).
وكذا زكريا الأنصاري (ت925ه) رحمه الله، حيث عرّفه بأنه: "هو تبديل شيء بآخر على الوجه الآتي (في أقسام المقلوب)"اه(52).
وكذا اللكنوي (ت1304ه) رحمه الله(53). وكذا محمد محمد أبوشهبة (ت1403ه) رحمه الله(54). وكذا محمد محمد السماحي (ت1404ه) رحمه الله(55). وكذا صبحي الصالح (ت1407ه) رحمه الله(56). وكذا السيد قاسم الإنديجاني رحمه الله (57). وكذا محمد أديب الصالح حفظه الله(58). وكذا نور الدين عتر حفظه الله(59). وكذا محمد لطفي الصباغ حفظه الله(60). وكذا محمود الطحان حفظه الله (61).
وكاد تعريف محمد عجاج الخطيب حفظه الله، أن يكون من التعاريف الجامعة حيث قال: "هو الحديث الذي انقلب فيه على راوٍ بعض متنه أو اسم راوٍ في سنده أو سند متن مشهور به لآخر"اه(62).
ويلاحظ ما يلي:
1 أن تعريفه فيه دور، حيث فسر الحديث المقلوب بالحديث الذي انقلب، ولم يأت في كلامه ما يوضح حقيقة القلب!
2 أن تعريفه غير جامع لصور المعرّف، إذ لم يذكر صورة القلب بالتقديم والتأخير في الأسماء، ولم تأت عبارته واضحة في صورة القلب ب إبدال ما اشتهر براوٍ فيجعل مكانه راوٍ في طبقته ليصير غريباً مرغوباً فيه.
تعريف طاهر الجزائري (ت1338ه) رحمه الله:
قال رحمه الله، معرفاً للمقلوب وقد عدّه في أقسام الحديث الضعيف: "هو ما وقعت المخالفة فيه بالتقديم والتأخير... والغالب في القلب أن يكون في الإسناد".
ثم قال: "وقال الأكثرون: القلب أعم من ذلك وجعلوا القلب في الإسناد قسمين... وذكر نحواً من تقسيم ابن الصلاح". ثم قال: "وقد عرّف بعضهم القلب في المتن بقوله: أن يعطي أحد الشيئين ما اشتهر للآخر"اه(63).
ويلاحظ ما يلي:
1 أنه نظر في تعريفه إلى تعريف ابن حجر رحمه الله في كتابه نزهة النظر، وقد تقدّم، لكنه جعله عاماً ولم يخصّه بكونه في أسماء الرواة بل جعله شاملاً للسند والمتن.
2 يمكن أن يتعقب تعريفه بكون القلب أعم من أن يكون بالتقديم والتأخير، وهذا ما أشار إليه في كلامه عندما ذكر تعريف المقلوب عند الأكثرين! ويبدو أن مراد الشيخ رحمه الله أن حصر القلب في هذه الصورة أولى، ويكون هذا اصطلاحاً خاصاً به، و لا مشاحة في الاصطلاح!
3 تقدّم التنبيه على أن ابن حجر (ت852ه) رحمه الله في مجموع كلامه في النزهة لا يفيد حصر المقلوب في التقديم والتأخير في الأسماء، وإنما وقع إيهام في عبارته بسبب الفصل، ويؤكد أنه لم يرد حصر المقلوب في التقديم والتأخير في الأسماء أمور سبق ذكرها، فارجع غير مأمور إلى تعريف ابن حجر والملاحظات تحته!
4 ويتعقب أيضاً بأنه أدرج المقلوب تحت أقسام الضعيف، هكذا مطلقاً دون تفصيل، والواقع أن المقلوب منه ما يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً.