كيفية كتابة البحوث للدراسات الانسانية...

ترجمة: هاشم كاطع لازم / أستاذ مساعد hashim_lazim@yahoo.com


بقلم: تشارلس كينك Charles King

تتطلب غالبية المقررات الدراسية في الجامعات تكليف الطلبة بواجبات كتابية مطوّلة تأخذ في العادة شكل بحث علمي. ويتطلب مثل هذا الأمر قيام الطالب ، في البدء ، بتحديد مجال واسع للبحث ذي صلة بالمقرر الدراسي ، ومن ثم العمل على تضييق دائرة البحث من خلال قراءة عامة ذات صلة بالموضوع لينتقل بعدها لبلورة سؤال بحثي واضح وتحديد المصادر الأساسية والثانوية بهدف الأجابة عن السؤال المطروح لينتهي به المطاف تقديم مناقشة للموضوع وفق نمط واضح المعالم ومبدع مع أيراد الأستشهادات المناسبة.
هذا أذن هو الأطار النظري لعملية كتابة البحث ، لكن كيف تضع كل ذلك موضع التطبيق؟ آمل أن تدلك الأرشادات الآتي ذكرها على اجابات مناسبة لما يدور في خلدك من تساؤلات.

تعليم النفس

وأنت في مستهل عملية كتابة البحث ضع هذه المسألة الهامة في بالك: أن كتابة البحث العلمي تتعلق ، في جانب منها ، بعملية تعلّم كيفية تعليم نفسك ، فبعد سنين عديدة من التخرج في الجامعة ستجد نفسك في حاجة لمواصلة تعلّم أشياء كثيرة عن العالم وما تكتنفه من تعقيدات كثيرة. من هنا تعتبر عملية كتابة البحوث الفردية من أنجع السبل لشحذ مهارات عملية التعلّم المستدامة. ومثل هذه العملية لابد أن تحفزك لطرح أسئلة رصينة والسعي للعثور على المصادر اللازمة للأجابة عن تلك الأسئلة ومن ثم العمل على طرح الأسئلة على الجمهور والدفاع عن ماتطرحه من أفكار في حال تعرض عملك البحثي لأنتقادات شديدة ، وهذه مهارات لابد من اللجوء اليها في أية مهنة أو حرفة ربما تمتهنها في نهاية المطاف.

الوصايا الخمس لكتابة البحث العلمي

أن كتابة البحوث العلمية الرصينة توجب الألتزام ببعض القواعد البسيطة التي يتجاهلها غالبية طلبة الدراسات العليا.

1. أبدأ بقراءة عامة وافية عن الموضوع وفكر بعمق وتحدث مع الأستاذ المشرف لتحديد موضوعك

ربما لن يكون من السهل عليك ، في مستهل الفصل الدراسي ، معرفة مواضيع البحث الهامة ذات الصلة بالحقل العلمي الذي تدرسه وكذلك المواضيع التي تتناولها المصادر الثانوية بشكل واف فضلا عن المواضيع التي أشبعتها أجيال متعاقبة من الكتّاب بحثا وتمحيصا. وعليك ان تبدأ عملية البحث من خلال قراءة عامة في حقل الأختصاص كأن تقرا (دائرة المعارف البريطانية) Encyclopedia Britannica التي تعتبر مصدرا ثرا يتجاهله الكثيرون ، وهو أمر يدعو الى الأسف! أقرا بضعة كتب أو مقالات تتناول مواضيع تسترعي أهتمامك وأعمد كذلك الى قراءة مايقترحه أساتذتك عليك من كتب وأهتم بما يرد من أسماء المصادر في الهوامش وثبت المراجع التي ترد في النصوص التي تقرأها اثناء الفصل الدراسي. بعد ذلك تحدث مع اساتذتك حول بعض افكارك العامة وتوجهات البحث المحتملة التي تجتذبك. لكن عليك أن تفعل كل ذلك في وقت مبكر من الفصل الدراسي.

2. توصّل الى تساؤل بحثي واضح

تجدر الاشارة أن أسئلة البحث ، في العلوم الأجتماعية في الأقل ، تستهل بأداة السؤال (لماذا؟) أو (كيف؟). تعامل مع الأمر وكأنه لغز: لماذا أتخذ حدث سياسي أو أجتماعي ما تلك الصيغة وليس صيغة أخرى؟ لماذا يوجد نمط معين في الحياة الأجتماعية؟ لماذا يبدو مظهر سياسي معين بالكيفية التي هو عليها؟ وكيف تغيرت ظاهرة أجتماعية أو سياسية من حقبة زمنية لأخرى؟ هذا السؤال المطروح يمكن أن يأخذ طابعا عاما أو خاصا. لماذا فاز حزب العمال بالأنتخابات البريطانية العامة الأخيرة؟ كيف تغيرت مفاهيم العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة الستينيات وكيف تؤثر الأنظمة الأنتخابية المختلفة على سلوك الأحزاب السياسية؟ أن الغاية من ذلك في هذا الوقت أن تسعى لتحديد أحد أمرين:

• التوجهات الجديدة والتطورات أو النتائج في الحياة الأجتماعية والتي لاتتبدى بشكل مباشر (أسئلة "كيف؟").
• الأسباب الكامنة وراء حدث ما أو أتجاه عام (أسئلة "لماذا؟").

نشير هنا الى أن علماء الأجتماع المتمرسين ، ومنهم المؤرخون وعلماء السياسة وخبراء الشؤون الدولية ، يعملون وفق نمطي الأسئلة المذكورين في أعلاه.
وتتصف أسئلة "كيف؟" و "لماذا؟" بأهمية خاصة كونها تلزم الكاتب لتوخي الحجة والتمكّن من مناقشة الأفكار ، أما الأسئلة التي لاتفضي الى بلورة الحجة والمناقشة فهي اسئلة لاقيمة تذكر لها! فعلى سبيل المثال أذا اراد أحد الكتاب كتابة بحث عن موضوع (ماذا حصل أثناء أندلاع الثورة المكسيكية؟) فأن البحث لن يتعد سرد عدد من الحقائق والتواريخ ، وهو مايمكن أن يشكل أحد المواضيع الواردة في دائرة معارف رصينة حيث أن الأسئلة التي تبدأ ب "ماذا؟" أو "متى؟" يمكن أن تشكل البداية فحسب لكتابة البحوث. مع ذلك يتعين على الباحث أن يلم كثيرا بحقائق القضية التي يتناولها ومن ثم ينتقل الى الأجابة عن أسئلة "لماذا؟" و "كيف؟" ، الجادة والهامة، في متن البحث ذاته.

3. عليك القيام ببحث حقيقي

المقصود بالبحث الحقيقي عدم الركون الى قراءة المصادر الثانوية باللغة الأنكليزية فحسب أو الأقتصار على المعلومات المتيسرة في الأنترنت ، أنما يعني أستخدام المصادر الأساسية التي تعتمد على نمط الأسئلة التي تسعى الى طرحها.
لنفترض هنا أنك ترغب في كتابة بحث يتقصى الأسباب الكامنة وراء اضمحلال الشيوعية في أوربا الشرقية. في هذا السياق يمكنك الشروع بقراءة بعض المصادر الثانوية العامة المتعلقة بأنهيار الشيوعية والتي يمكن من خلالها تخمين عاملين رئيسيين هما المشاكل الأقتصادية المتعلقة بالتخطيط المركزي الشيوعي والأصلاحات التي قام بها ميخائيل غورباشوف في الأتحاد السوفيتي السابق. والمصادر الأساسية المعتمدة في هذا الشأن ربما تتضمن أحصاءات أقتصادية ومذكرات السياسيين الذين عاصروا تلك الفترة أو التقارير الصحفية الواردة في صحف أوربا الشرقية والمكتوبة باللغة الأنكليزية أو لغات أخرى. ثم يتعين عليك أن تحشد طاقاتك كافة للتعاطي مع موضوع البحث مثل الأستعانة بالموضوعات المكتوبة بلغات أجنبية فضلا عن أستخدتم البرامجيات لتحليل المعطيات الأحصائية.
وأذا قدحت في ذهنك فكرة كتابة بحث عن الكيفية التي تغيرت بموجبها مفاهيم الهوية الوطنية في بريطانيا منذ فترة الثمانينيات فأن بمقدورك أن تدرس بتمعن الخطب التي أدلى بها الزعماء السياسيون البريطانيون والأطلاع على الأفتتاحيات التي وردت في كبريات الصحف البريطانية والمساندة الأنتخابية للحزب القومي الأسكتلندي وغيره من الأحزاب المحلية الأخرى. ولربما تعمد الى أجراء مقابلة مع أحد الخبراء في الميدان الذي تكتب فيه سواء كان عالما ذائع الصيت أو ممثلا للحكومة البريطانية أو صحافيا بارزا.
أن المصادر الأساسية تأخذ بيدك الى أقرب نقطة من الحقائق الواقعية التي سوف تعينك على بلورة حجتك. ومن الطبيعي أن تتبدى الأدلة الأساسية بالتدريج ، وأن أفضل المصادر تلك التي كتبت في اللغات الأصلية التي تدور حول الأشخاص المرتبطين بشكل مباشر بالحدث أو التطور الذي تسعى الى أشباعه بحثا. وتأتي بعد ذلك المصادر ذاتها مترجمة الى لغة أخرى ، والمصادر التي تمثل دراسات للخبرات المباشرة أو تشير اليها. ويتعين عليك في بحثك أن تحاول الأقتراب كثيرامن الأحداث أو الظواهر التي تعكف على دراستها. ثم أن مهمة الباحث البارع تقتضي تجميع الأدلة الكافية من خلال أستخدام المهارات والمصادر المتاحة لك بهدف أجراء مناقشة واضحة ورصينة تستند الى المصادر القوية والموثوقة.



4. أجراء المناقشة

مما يدعو للأسف أن الكثير من البحوث التي ينجزها طلبة الدراسات الأولية في الجامعات لاتعدو كونها أكثر من تقارير تشوبها بعض اللمسات البحثية حيث يتجه الطلبة لتحديد بضعة كتب في المكتبة ومن ثم قراءة ثلاثة منها بسرعة سعيا وراء أفكارها الرئيسية وبعدها يتم تأشير بعض الحقائق أو تعليم بعض الصفحات لينتهي المطاف بربط المعلومات بأستخدام مفرداتك اللغوية ليصبح (البحث) جاهزا للتقديم الى القسم العلمي المعني.
ومثل هذه الصيغة لاتفي بمتطلبات البحث المتكامل الذي لايعمد الى تجميع الأدلة فحسب أنما يعمل على نسج الحقائق ويخرج بمناقشة وافية تجيب على السؤال الأساسي المطروح في البحث. تجدر الأشارة أنه لاتوجد اجابات قاطعة في أي عمل بحثي ، غير أنه توجد ثمة مناقشات متميزة وأخرى سطحية! والنقاشات المتميزة تتوفر على أدلة قوية تستند الى مصادر موثوقة ومن ثم بلوغ نتيجة واضحة ومركزة تجيب عن السؤال الذي تم طرحه في بداية البحث. أضف الى ذلك ، تعمد النقاشات المتميزة الى دراسة المزاعم الأخرى: فهل هناك ثمة مناقشات لاتتفق مع ماطرحته من أفكار؟ مارايك في تلك المناقشات؟ هنا لابد من التنويه الى أن تسليط الضوء على المناقشات المخالفة يمكن أن يشكل بداية طيبة لدى الشروع في البحث : كيف عمد الباحثون الى تفسير حدث ما أو أتجاه محدد؟ هل ثمة نقاط ضعف تسم تفسيراتهم تلك؟

5. الكتابة بشكل متقن

تعني الكتابة المتقنة العمل على طرح المناقشة وأيراد الدليل الذي يجب أن يكون واضحا ومنطقيا وأبداعيا حيث أن المناقشة التي تعبر عنها كتابة متحجرة لاتجدي نفعا لأي أحد. هنا يقتضي البحث الأستشهاد بالمصادر بدقة وبشكل مناسب في الهوامش وفي نهاية البحث أو في التوثيق العلمي داخل النص من خلال أستخدام أسلوب بحثي معتمد في التوثيق العلمي. ولابد أن يكون الأسلوب منهجيا وجادا وأن تتم الأستعانة بالجداول والصور الأيضاحية وغيرها من الرسومات أذا أقتضى الأمر تقديم الدعم للفكرة الأساسية.
تلك هي اذن بعض الأرشادات الخاصة بكيفية كتابة البحوث. وبمرور الوقت سوف يكون بوسعك تطوير الأساليب والقواعد الخاصة بكتابة البحث وأجراء المناقشة ومن ثم عرض النتائج الخاصة ببحثك. أن النصائح الواردة في أعلاه كفيلة بوضع قدميك على الطريق الصحيح الخاص بكتابة البحث.