مساهمة الوسائل الحديثة في العملية التربوية
لم يشكل الإنتقال و التحول نحو وساطة الوسائل الحديثة في العملية التربوية انتقالا تم فيه تعويض محتوى المواد التعليمية من اشكالها التقليدية إلى أشكال أكثر تقنية منظمة وهادفة يمكن عرضها من خلال جهاز تقني مناسب فقط ؛ بل برز هذا التحول كاستجابة حتمية و مرغوب فيها؛ فهي حتمية كونها استجابة لتطورات سوسيولوجية و اقتصادية و تقنية حتمت على المجال التربوي الإنفتاح على أساليب جديدة في التربية, و مرغوب فيها لكونها نابعة من حاجات إنسانية لتدارك بعض الأشكالات الخاصة بالميدان التربوي وللسعي من اجل تحسين المنظومة التربوية؛ ما جعل من جهة, استوساط الوسائل الحديثة يشكل نقطة محورية ذات أهمية كبيرة في العملية التربوية, و من جهة أخرى, جعل دلالة التربية التكنولوجية لا تقتصر على استخدام الوسائل و الأجهزة الحديثة بقدر ما هي منهجية لوضع منظومة تعليمية تسير وفق خطوات منظمة تستعين بالوسائل الحديثة التي تقدمها التقنية في تحقيق غاياتها وفق نظريات التعليم.
نبع الإهتمام بالوسائل الحديثة نتيجة أسباب عدة, استدعت استخدام الوسيلة التكنولوجية؛ بحيث أصبح هذا الإستعمال ضرورة لا غنى عنها في تحقيق الأهداف المعرفية و السلوكية للنشاط التربوي, نذكر بعض الأسباب:
ـ التوسع المعرفي الكبير الذي يتمظهر في النمو المتضاعف لحجم المعارف و لإستحداث تفريعات جديدة للمعرفة الواحدة.
ـ المشاكل التي خلفها النمو السكاني الكبير الذي جعل توفير التعليم للجميع مسألة صعبة بالنظر إلى الامكانات المحدودة و إلى الشروط التي تفترضها النظريات التقليدية في عملية التربية؛ أي معلم ملقن و متعلمون يتلقون المعلومات في بيئة خاصة محدودة, ما دعى إلى اللجوء إلى الوسائل التواصلية ذات الإنتشار الجماهيري لأجل تأمين فرص التعلم لأكبر عدد ممكن من طالبي العلم .
ـ ربط الحاجة بمتطلبات سوق الشغل و ذلك باستهلاك تلك الوسائل او من حيث الحاجة إلى تكوين أطر متخصصة تلج سوق الشغل المحتاج إلى كفاءات عالية آتية من عالم المدرسة.
و تشكل هذه الأسباب محفزا للعملية التربوية و محركا لها, لمسايرة مشاكل المجتمع و حاجيات سوق الشغل للقيام بالوظيفة المناطة بها في تأطيره و إمداده بأجيال متعلمة ويد عاملة ذات كفاءة, كما أنها جاءت نتيجة للتطورات الحديثة في ميادين علم النفس و نظريات التواصل التي شكلت الخلفية الأساس المحركة للعملية التعليميةـالتعلمية .
وقد تم الحديث عن الوسائل التقنية الحديثة و استعمالها في العملية التربوية من منظور نظرية الإتصال, ذلك انطلاقا من وجود شروط معينة لازمة في كل عملية تواصلية ابتداءا من مرسل, رسالة, شفرة ثم مستقبل و بيئة. و انطلاقا من مفهوم الشفرة تم الحديث عن الإمكانات المتعددة في إيصال الرسالة بوسائط مختلفة تساهم في تيسير وصول الرسالة التربوية من المعلم(المرسل) إلى المتعلم (المستقبل) و من ثمة نجاح العملية التواصلية و هذا ما يمكن تحقيقه بوساطة الوسائل التقنية الحديثة, إذ أن أثر الإتصال عن طريق الكلام وحده لا يساعد المتعلم على الإحتفاظ بمحتوى الرسالة التربوية إلا إذا تم تعزيزه بالتعليم عن طريق استخدام أكبر عدد ممكن من الحواس؛هذا و تدعو الفروق الفردية الملاحظة بين المتعلمين إلى أهمية الوسيلة التواصلية في تدارك تلك الفروق, و ذلك لما توفره من مثيرات متعددة النوعية و طرق و أساليب مختلفة في عرضها لهذه المثيرات ما يتيح للمتعلم فرصة لإختيار المناسب منها حسب رغباته و ميولاته و خصوصية اشتغاله المعرفي.
يحقق استعمال الوسائل الحديثة في التعليم زيادة في المشاركة الإيجابية للمتعلم في العملية التربوية بتنشيطها لتفاعله و تنميتها للعمل الجماعي داخل الفصل الدراسي بالمشاركة في بناء الدرس و تنشيطه و فهمه. فالوسائل التعليمية إذا أحسن المدرس استخدامها تزيد من مشاركة المتعلم الإيجابية في اكتساب الخبرة و تنمية قدرته على التأمل و دقة الملاحظة و اتباع التفكير العلمي للوصول إلى حل المشكلات, كما أن لذلك تأثيرا على تكوين المتعلم بما يتمثل في تنمية الدافعية في التعلم لديه و الرغبة في التعلم الذاتي و تحويله إلى باحث نشط عن المعلومات و ليس متلقيا سلبيا لها وتفجبر طاقاته الإبداعية و الإيتكارية و قدرة الخيال لديه.
إن التدريس بالوسائل التقنية الحديثة يتجاوز مهام و مرامي منظومة التعليم التقليدية و التي تنظر إلى المتعلم كمتلقي سلبي للمعلومات نملؤ ذهنه الفارغ بالمعارف و نروض ذهنه من خلال تكرار الأداءت. و بالمقابل من ذلك فهي تدعم مسيرة التعليم الحديث القائم على اعتبار المتعلم محورا للعملية التربوية ؛ و ذلك بالسعي إلى تطوير كفاءاته و تنمية سيروراته و استراتيجياته الذهنية التي يستعملها أثناء الإشتغال المعرفي للوصول إلى درجة المراقبة الذاتية في التعلم أي تطبيق المهارات الذهنية المكتسبة في المهام المناسبة و في الوقت المناسب. هذا بالإضافة إلى اسهاماتها في اغناء الفضاء العام بالمعلومات و المعارف و تيسيرها و تقريبها للعامة لا سواء من حيث الكم أو الكيف.
بناءا على هذا , تظهر لنا جليا الإسهامات الجليلة التي تقدمها الوسائل التقنية الحديثة في بنية العملية التربوية ككل ؛ فبعد أن كان دور المعلم في التعليم التقليدي هو أن يقدم الحقائق والمعلومات للمتعلم، فقد تحول دوره في التعلليم الحديث إلى تعليم المتعلم كيف يتعلم، وهذا يتطلب حسن احتواء المتعلم كي يقوم بمسؤولية تعلمه على أساس من الدافعية الذاتية، ومساعدته على أن يكون باحثًا نشطًا عن المعلومات لا متلقيًا لها، كما يقوم المعلم بتصميم أنشطة تعليمية، وتوفير الوسائل والتقنيات اللازمة لها، أما المتعلم فبعد أن كان محصورا في ذلك الوعاء الفارغ الذي نحشوه بالأفكار و المعارف أصبح مع المنظور المعرفي الحديث ــ و الذي تسعى الوسائل الحديثة لتحقيق غاياته ــ متعلما كفؤا يعلم نفسه بنفسه. أما العملية التعليميةـالتعلمية فلم تعد تتطلب مكانا معهودا و لا زمانا محدودا بل أصبح الكل متعلما أين ما شاء و وقت ما شاء و أصبحت بنية العملية التربوية بنية تشاركية تفاعلية.